أحس بخطر البرامكة فألقى القبض عليهم ونكّل بهم ورماهم في السجون
هال صاحب البستان رؤية الخليفة منحنياً والوزير يقف على ظهره ليقطف الرمانة
بقلم - أحمد بن محارب الظفيري:
هارون الرشيد هو جعفر وقيل هارون بن محمد المهدي بن عبدالله ابي جعفر
المنصور العباسي الهاشمي. وهو خامس الخلفاء العباسيين وأشهرهم, ولد سنة 148
هـ 766 م في مدينة الري من بلاد فارس وتقع في الجنوب الشرقي من مدينة
طهران, وقد فتحها المسلمون في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه.
وهو ابن جارية فارسية تدعى الخيزران "ت 173 هـ 789 م" اشتراها محمد
"المهدي"- والد هارون - وانجبت له ابنيه موسى "الهادي" وجعفر "هارون
الرشيد" ثم اعتقها المهدي اكراماً لها وتزوجها, وكانت الخيزران امرأة حازمة
متفقهة بالدين, اخذت الفقه عن الامام الاوزاعي.
ولما شب هارون تزوج ابنة عمه المسماة "أم العزيز" والملقبة "زبيدة", وهي
ابنة جعفر بن ابي جعفر المنصور, وكانت السيدة زبيدة او الست زبيدة امرأة
صالحة متدينة, معتزة بأصلها الهاشمي القرشي العربي وكانت اثيرة في نفس
زوجها يحبها حباً جماً. والرشيد الذي كتب على عمامته "سنة غاز وسنة حاج" في
سبيل الله, لم تفارقه زوجته زبيدة فكانت كثيراً ما ترافقه في حجاته
وغزواته.
وكان الرشيد يظهر الاحترام والتودد للفقهاء مثلما كان يفعل ابوه المهدي,
فلقد عين الرشيد ابا يوسف يعقوب بن ابراهيم الانصاري "ت 182 ه¯ " صاحب
الامام ابي حنيفة وتلميذه قاضياً لقضاة بغداد.
ثم اصبح ابو يوسف فيما بعد, كما يقول المسعودي "ت 346 ه¯ " في "مروج الذهب"
قاضي قضاة الرشيد فهو الذي يعين قضاة الاقاليم بعد موافقة الخليفة, وابو
يوسف تلميذ ابي حنيفة غني عن التعريف فكل مصادرنا التاريخية تشيد بهذا
الرجل فهو قمة شامخة في الورع والتقى والتدين, وكان الرشيد يجالس الكسائي
علي بن حمزة "ت 189 ه¯ " امام اللغة والنحو والقراءة, ويجالس الليث بن سعد
"ت 175 ه¯" ويستفتيه في كثير من القضايا الفقهية, ولقد اثنى الامام احمد بن
حنبل على الليث بن سعد حيث قال: "الليث كثير العلم صحيح الحديث, وما في
هؤلاء المصريين اثبت من الليث" جاء هذا الثناء في تهذيب التهذيب لابن حجر
العسقلاني.
ولقد ذكر الطبري "ت 310 ه¯ " في تاريخه ان الرشيد كان متدينا ويحب اهل
الدين, فإذا حج اخذ معه وزراءه وقضاته ووجوه بني هاشم وقادة جيشه والآن..
ورغم المسافات الزمنية الطويلة بيننا وبين عهد هارون الرشيد وزوجته الست
زبيدة, فلا يزال التراث الشعبي العربي في البوادي والحواضر والارياف
والنجوع يتوارث قصصا وحكايات كثيرة عن الست زبيدة وزوجها الرشيد وعن علاقة
البهلول وأبي نواس بهما.
وبالرجوع الى مصادر عيون التراث العربي الموثقة نجد ان معظم الحكايات التي
تدور حول علاقة الرشيد وزبيدة بأبي نواس غير حقيقية ولا تصمد امام الواقع
التاريخي المثبت عن هذا الخليفة الذي يعتبر بحق من أعظم خلفاء وملوك بني
العباس دينا وخلقا ورجاحة عقل واعتزازا بنسبه الهاشمي القرشي.
حكايات وطرائف
من يتمعن بالمأثور الشعبي المتوارث عند
اعراب جزيرة العرب الحاليين - ومعظمهم أميون- يجد ان مأثورهم الشعبي يحتوي
على الكثير من الحكايات والطرائف والقصص التي تدور حول هارون الرشيد وزوجته
زبيدة ووزرائه البرامكة. ويصف الفكر الشعبي لبادية الجزيرة عصر هارون
الرشيد بالحلاوة والرخاء والبحبوحة والعدل الامان. واذا رجعنا الى مصادرنا
التاريخية الرصينة نجد ان ما يقوله هؤلاء البدو عن هارون الرشيد صحيحا
وثابتا.
واللافت للنظر انك عندما تسألهم عن غيره من خلفاء بني العباس كالسفاح او
المنصور او المهدي فلن تجد عندهم جوابا فهم لا يعرفون غير هارون الرشيد
وزوجته زبيدة, الا يدل ذلك على عظمة هذا الرجل الذي حاول الشعوبيون تشويه
صورته العربية الناصعة... ولكن يأبى الله ذلك ويأبى الوجدان العربي الا ان
يختزن صورة هارون بداخله نقية منزهة عن كل سواد.
ومن الشواهد الباقية على الارض الى هذا اليوم والتي تذكر بادية الجزيرة
بالرشيد وزبيدة, الدرب الذي يسمونه "درب زبيدة" وتسميتهم صحيحة مئة في
المئة, لكن بعض كتب التاريخ تسميه اضافة الى الاسم السابق باسم "طريق
الكوفة - مكة" أو "درب محمل الحاج العراقي".
فإذا شاء الله ومررت بالصحراء التي يمر بها هذا الدرب... فاعرج على أي بدوي
تشاهده امامك سارحا مع ابله, وأسأله عن آثار هذا الدرب.. فانه سيقف لك
متهللا طلق المحيا وسيعزمك على لبن نياقه, وسيحكي لك حكايات عابقة بشذى
التاريخ ومضمخة بعطره الفواح عن صاحبة الدرب الطويل الست زبيدة وعن هارون
الرشيد وحكيمه البهلول.
واليكم قصة درب زبيدة: هذا الدرب عمره جد هارون الخليفة ابي جعفر المنصور,
واهتم به ايضا والد الرشيد الخليفة المهدي, لكن في عهد الرشيد بلغ الاهتمام
به اوجه, حيث اهتم الرشيد به اهتماما فائقا وكذلك اهتمت به ابنة عم الرشيد
وزوجته السيدة الصالحة زبيدة بنت جعفر بن المنصور, وعرف هذا الطريق الى
هذا اليوم باسم "درب زبيدة" فلو سألت أي بدوي في هذا العصر يسكن حول هذا
الدرب, اين درب زبيدة? لأشار لك بيده نحوه, ودرب زبيدة من اهم طرق التجارة
والحج في العصور الاسلامية - قبل ظهور السيارات- يبدأ من الكوفة وينتهي
بمكة المكرمة, طوله نحو 771 ميلا ويتكون من 30 محطة, تسمى هذه المحطات
"معشى" و"مغدى" وبين كل محطة ومحطة مرحلة, والمرحلة هي رحلة البدو على
جمالهم طوال اليوم وتعادل 45 كيلو مترا, والاميرة زبيدة هي التي اقامت عليه
المحطات والمنازل والاستراحات والآبار والبرك, ولقد حجت هي وزوجها على هذا
الطريق تسع مرات مؤكدة.
ومازالت آثاره ومعالمه باقية حتى هذا اليوم شاهدتها بنفسي ونزلت باحدى
البرك بواسطة بقايا درجها, ورأيت عيانا على الارض جادة الابل المرسومة على
شكل شريط مستعرض طويل رسمته اخفاف الابل بضغطها على الارض عبر العصور
والاجيال, وسنتناول هذا الدرب بمقال تاريخي يربط الماضي بالحاضر.
وتروي كتب التاريخ ان هارون الرشيد ومعه زبيدة حجا في بعض الاعوام ولما
تعشى في محطة زرود, وتحركت ركائب "قافلة " الحاج قاصدة مكة, تذكر مدينة
بغداد فتمثل بهذين البيتين:
اقول وقد جزنا زرود عشية
وراحت مطايانا تؤم بنا نجدا
على اهل بغداد السلام فانني
ازيد بسيري عن بلادهم بعدا
وزرود: مورد ماء مشهور, ذكرها ياقوت
الحموي (ت 626 ه¯ ) بطريق حاج العراق على درب زبيدة - ومازالت تحمل اسمها
القديم نفسه - تقع قرب لينه.
وكانت قلبان "آبار" زرود على ايام الرشيد لبني بكر ومازن ولما انداحت هذه
القبائل الى البلدان المجاورة, حل محلهم في القرن السابع الهرجي كما يقول
ابن فضل الله العمري قبائل الاجود وبني مالك, اما الآن فهي من مساكن قبيلة
شمر وبعض عربان البادية الاخرين.
عين زبيدة: ومن اهم اعمال هذه المرأة الصالحة زبيدة, انها اهتمت بعين ماء
في مكة المكرمة, فأرسلت المهندسين والعمال الجيدين من بغداد وقامت ببذل
الاموال والمصاريف الكافية لحفر هذه العين واعمارها وتحسينها وانشأت لها
السواق التي يجري فيها الماء, فسميت باسمها "عين زبيدة" وقالت: لو كلفتني
ضربة الفأس دينارا من الذهب سأدفعها, وصدقت وفي عهد الملك عبدالعزيز آل
سعود تم تجديد هذه العين واعمارها, ويذكر والدي وقد حج في الثلاثينات من
هذا القرن على ظهور الابل, ان الحجاج وركائبهم كانوا يشربون من ماء عين
زبيدة.
(دار البرامكة) أو (دار البرابكة)
مثل لايزال يتردد على أفواه بادية
اليوم. فإذا حلت مصيبة أو كارثة بفرد أو بقوم, فأذهبت المال والدار والولد,
قيل ان القوم الفلانيين أصبحت دارهم (دار البرامكة) وبعض البدو يقول: (دار
البرابكة) والمعنى واحد.
واللافت للنظر, ان هؤلاء البدو المعاصرين الأميين يعرفون قصة المثل
التاريخية ولكن ليس بالتفصيل. فهم يفسرونه بقولهم: ان الرشيد ذبح البرامكة
الفرس, وحرق دورهم لأنهم تطاولوا وتآمروا على الحكم وأراد احدهم ان يتزوج
أخت الرشيد, لأن الملك الرشيد زوج زبيدة مجمد, لا يحل ولا يربط بفعل قوة
البرامكة.
واليكم قصة نكبة البرامكة من مصادرها التاريخية: يذكر ابن عبد ربه صاحب
(العقد الفريد) والحافظ الذهبي صاحب (العبر في خبر من غبر) والجهشياري صاحب
(الوزراء والكتاب) وغيرهم يروون أخبار هذه النكبة.
ونلخصها بما يلي: البرامكة: أسرة فارسية, عميد هذه الأسرة هو خالد بن برمك
(ت 165ه¯) وكان وزيراً للخليفة العباسي الاول (ت 136ه¯) أبو العباس
السفاح, وكان خالد بن برمك يُتَّهم بالمجوسية.
وفي عهد الرشيد كان وزيره يحيى بن خالد بن برمك, وكان رجلاً أديباً حسن
التدبير وكريماً وممدوحاً بكل لسان. وكان ولدا يحيى "الفضل وجعفر" يلازمان
الرشيد ويساعدان أباهما في الوزارة وتصفهما كتب التاريخ بالجود والكرم
المفرط ولهما قصص بهذا الخصوص مذكورة.
وبلغ الأمر بيحيى وولديه ان استبدوا واستفردوا بأمور الدولة من دون الرجوع
إلى الرشيد, فأصبحت الخلافة لهم وليس للرشيد منها إلا اسمها حتى المخصصات
العائلية للأسرة العباسية تمر من تحت أيديهم.
وبلغ الاستياء حداً لا يطاق عند رجالات العرب في الحكم وخارج الحكم من
عباسيين وغيرهم, فاتصلوا بالرشيد وقالوا له: إن الخلافة ستصبح فارسية
مجوسية ان لم تتداركها. لقد عزل اولاد برمك أكثر ولاة الاقاليم وعينوا
مكانهم ولاة موالين لهم. فنحن لا نعرف هل خليفتنا هاشمي عربي أم برمكي
فارسي? فطلب منهم الرشيد الصبر وأخذ الأمور بالرشد والحذر ووعدهم بأنه
سيضرب ضربته القاضية عن قريب.
وفعلاً في سنة 187 ه¯ اطبق حرس الرشيد الخاص على بيوت وضياع البرامكة فتم
القبض على يحيى وولديه جعفر والفضل وجميع اولادهم وذراريهم. فضربت عنق جعفر
بن يحيى وأحرقت جثته. وسجن يحيى وولده الفضل وبقية البرامكة في سجن الرقة.
فمات يحيى وولده الفضل في السجن, ومات أكثرهم في السجن.
وسويت قصورهم بالارض, فانطفأ ذكرهم وماتت أخبارهم فلم تقم لهم قائمة.
(لاني من البرامكة ولا البرامكة مني) ولهذه العبارة قصة متواترة تتردد عند
البدو, كنت أسمعها وأنا شاب يافع في بدايات النصف الثاني من هذا القرن,
والقصة هي: في أحد الأيام كان الرشيد يتجول مع وزيره البرمكي في أحد بساتين
البرامكة, وأثناء تجوالهما في البستان أعجب الرشيد برمانة كبيرة متدلية
على شجرتها, فحاول الرشيد اقتطافها فلم يتمكن من ذلك لارتفاعها عنه, فقال
له وزيره البرمكي: دَنِّقْ (اِركعُ) يا مولاي لأقف على ظهرك واقطف لك
الرمانة. فدَنَّقَ (رَكعَ) الرشيد وصعد على ظهره وزيره البرمكي وقطف
الرمانة وناولها إِياه.
وكان الرجل البرمكي صاحب البستان حكيماً, يسمع ويرى ما حصل بين الرشيد
ووزيره, فهاله أن يتجاسر الوزير البرمكي على سيده بهذه الصورة المشينة.
فما كان من هذا الرجل - صاحب البستان - إلا أن احضر لنفسه ورقة وكتب
عليها: ( ما أنا من البرامكة ولا البرامكة مني) وتقدم للرشيد قائلاً له: يا
مولاي وقع لي على هذه الورقة. فلما قرأها الرشيد, التفت اليه وقال: ما
الذي دفعك لكتابة هذا الكلام? فقال: هذا يا مولاي أمر يخصني وأنا أعرف به.
فوَقَّع له الرشيد وسلمه ورقته.
ولما نكب الرشيد البرامكة واستأصل شأفتهم, كان من بين المقبوض عليهم صاحب
الورقة, حيث قدمها للرشيد قائلاً له: (ما أنا من البرامكة ولا البرامكة
مني) وفهذا توقيعك يشهد على ما أقول فأنقذته ورقته من الموت.
وهذه الكلمة اصبحت عند البدو الحاليين كالمثل السائر, يقولها البدوي:
عندما يتبرأ من جماعة أو من أمر أو من شيء تبرؤا تاماً, لقطع الصلة نهائيا
من هذا الموضوع الذي ينسب اليه.
ولو رجعنا الى كتب التراث والمصادر القديمة, لوجدنا فيها الكثير من
الحكايات الشبيهة بهذه الحكاية. فالفضل وجعفر ابنا يحيى البرمكي اسقطا كل
حاجز نفسي ومادي بينهما وبين الرشيد على اعتبار انهما اخواه ووزيراه فأمهما
هي التي ارضعت الرشيد وتسمت بأم الرشيد. ولكن الرشيد عندما شب عن الطوق
واحس بخطر المؤامرة على الدين والدولة, رجع الى ربه محتسباً ومعتمداً
وابتعد عن مجالس آل برمك المبتذلة, ونادى أبا يوسف القاضي والليث بن سعيد
وغيرهما من العلماء الثقات قائلا لهم: انصحوني وقوموني, فوالله ان سيرة جدي
عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب هي التي يهفو لها قلبي ويسعى الى تطبيقها.
زواج العباسة من جعفر البرمكي
ان قصة زواج العباسة اخت هارون الرشيد
من جعفر بن يحيي البرمكي, قصة شعوبية مدسوسة, لا اساس لها من الصحة, رغم
انها ذكرت في بعض المصادر البعيدة زمنيا عن عهد الرشيد معتمدة على شائعة
كاذبة راجت بعد مقتل البرامكة, والعجيب ان هذه المصادر التي ذكرتها اضافت
عليها حبكة فنية, قد تكون مقصودة او غير مقصودة وهي ان الرشيد وجعفر
والعباسة يجلسون جميعا في مجلس مبتذل فيه طرب وشراب وتهتك.
وألف الكتاب المتأخرون حول هذا الزواج المزعوم بين العباسة والبرمكي الكثير
من القصص بعضها لمستشرقين اجانب وبعضها لعرب مثل (قصة العباسة) للكاتب
المصري جورجي زيدان و"مسرحية العباسة" للشاعر المصري عزيز اباظة, واشار لها
الاستاذ منير العجلاني في كتابة "عبقرية الاسلام" حيث يقول:" وتغلب جعفر
في النهاية على امر الرشيد الذي كان يحبه حبا جما حتى زوجه اخته "العباسة"
وكان الرشيد يحب مجلسهما كثيرا, وذلك لينعم باجتماعهما في مجلس واحد".
ونقول ان ما اشار اليه الاستاذ منير هو نقل من دون تفنيد وتحقيق, وكان
الاجدر والاصوب ان يرجع الي مصادر التاريخ الرصينة التي اشار الى عبقرية
الرشيد وصلاحه, فهذا المؤرخ القديم ابو جعفر محمد بن جرير الطبري(ت 310ه¯)
صاحب كتاب ( الرسل والملوك) وهذا عبدالرحمن بن محمد بن خلدون(ت 808 ه¯)
صاحب المقدمة الشهيرة, التي اكتشف اهميتها الاوروبيون قبل ان نكتشفها وصاحب
تاريخ (العبر وديوان المبتدأ والخبر) ينفيان هذا الزواج نفيا قاطعا
بالادلة النقلية والعقلية المعروفة والمنقولة عن سيرة هذا الخليفة الهاشمي
العربي المسلم "هارون الرشيد".
ولنرجع الى المأثور الشعبي عند بادية اليوم - ولننقله بأمانة - ماذا يقول
بدو اليوم في جزيرة العرب عن هذا الزواج? بعضهم يقول: ان البرمكي - من دون
معرفة اسمه - احب العباسة اخت هارون الرشيد وتجاسر على الرشيد وطلب منه ان
يزوجه اياها.. فتعجب الرشيد من جسارة خادمه الفارسي, فأمر بقتله وهدم داره,
وبعضهم يقول ان البرمكي تزوج العباسة سرا وانجب منها ولدا, فهربت العباسة
الى جهة مجهولة.. والعجيب ان الرواية الشعبية تنسب بعض الاسر العربية
الكريمة المعروفة (لا اريد ان اذكر اسماءها) المتزعمة لبعض القبائل العربية
المعاصرة الى ولد العباسة من البرمكي, ولكن لو رجعنا الى الواقع التاريخي
هل يا ترى هناك اساس لهذه الروايات الشعبية? نقول: نعم الاساس هو القصة
الخرافية الشعوبية التي شاعت وانتشرت بعد الحدث الكبير وهو مقتل اسرة
البرامكة التي كانت تبذل المال لشيوخ العرب والعجم من دون حساب.
ولا تنس ان الوجدان الشعبي يختزن الحقيقة والخيال والوهم والخرافة يصطنع
هذه الامور بعد حدوث الاحداث الجسام فيختلط الواقع بالخيال والماء بالسراب.
لذلك يفترض بباحث التراث والتاريخ ان يكون ملما بتاريخ الامة المكتوب
والمتوارث عبر اجيالها الطويلة, قادرا على ان يقارن بين الاسباب ومسبباتها
بين حوادث اليوم والامس بين المؤثر والمتأثر, بين الصحيح والمدسوس حتى
يتمكن من تقديم الصحيح المثبت من مصدره الصادق, وبذلك يريح ضميره ويرضي ربه
تعالى.
نهاية هارون الرشيد
ذكر الطبري ابو جعفر محمد بن جرير (ت
310ه¯) ومؤرخ الحافظ الذهبي ابو عبدالله محمد بن احمد بن عثمان (ت 748 ه¯)
ان الرشيد مرض وهو في غزوة من احدى غزواته وتوفي في جمادى الاخر سنة 193 ه¯
في مدينة طوس من اقليم خراسان وكانت مدة خلافته ثلاثا وعشرين سنة, حج مرات
وغزا كثيراً حتى قيل فيه:
فمن يطلب لقاءك أو يرده
فبالحرمين أو اقصى الثغور
وكان شهما شجاعا حازما جوادا ممدحا فيه دين وسنة وكان يصلي في اليوم مئة ركعة الى ان مات, ويتصدق كل يوم من صلب ماله بألف درهم.
وعظه الفضيل وابن السماك وغيرهما وله مشاركة قوية في الفقه والادب والعلم.
ولنرجع الى ما يقوله بدو اليوم, العجيب انهم لايعرفون من خلفاء بني العباس
غير هارون الرشيد ولايعرفون من خلفاء بني امية الا معاوية بن ابي سفيان,
والرشيد عنده اكثر شهرة من معاوية فماذا يقوله أهل باديتنا اليوم عن كرم
الرشيد يقولون: جاءت امرأة للرشيد تشكو الوالي فانصفها واكرمها (والقصة
طويلة), يقولون: ان الرشيد كان ماشيا وصادفه البهلول بالطريق فاستوقفه,
فسأل البهلول عن بعض الامور فنصحه البهلول بكلمات محكمة, فأكرمه الرشيد
بصرة من المال ففرقها البهلول على الناس.
وفي احدى المرات كان الرشيد قانصا - في رحلة قنص - فانفرد عن اصحابه ومر
على بيوت فقراء الاعراب المنتشرة في الصحراء واخذ يسألهم عن احوالهم واخبار
خليفتهم الذي في بغداد, فأخذ كل منهم يدلي بدلوه, وبعد فترة جاءت خيول
حاشية الرشيد, فعرف الاعراب ان الرجل الجالس بينهم هو خليفتهم, فطمأنهم
وتبرع لهم بأموال هائلة فدعوا له بدوام ملكه وبقاء عزه, ليعز به الاسلام
والمسلمين.
منقول
من السياسة الكويتيه